mardi 2 juillet 2013

أوجز مقال في أبلغ بيان

    عن أحمد بن عُبيد قال‏:‏ أخبرني هشام الكلْبي عن أبي محمد بن سُفيان القُرشيّ عن أبيه قال‏:
‏ كُنَّا عند هشام بن عبد الملك، وقد وَفد عليه وفدُ أهل الحجاز- وكان شبابُ الكُتَّاب إذا قَدم الوفدُ، حضروا لاستماع بلاغة خُطبائهم- فحضرتُ كلامهم.
 وكان محمد بن أبي الجهم بن حُذيفة العَدوىّ، وكان أعظَم القوم قدراً، وأكبَرهم سنّاَ و أفضلهم رأيا و حلما، فقال‏:‏ أصلح اللّه أميرَ المؤمنين، إنّ خُطباء قريش، قد قالت فيك ما قالت، وأكثرتْ وأطنبت، واللّه ما بلغ قائلُهم قدرَك، ولا أحصى خطيبُهم فضلَك، وإن أذنْتَ في القول قلتُ.
 قال: ت‏كلم.
  قال: أفأوجز أم أطنب؟
 قال‏:‏ بل أوجز‏.‏
قال‏:‏ تولاك الله يا أميرَ المؤمنين بالحُسنى، وزينك بالتَقوى، وجَمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج أفأذكرها؟
 قال‏:‏ هاتها‏.‏
قال‏:‏ كَبُرت سني، ونال الدهرُ مني، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْبر كَسْري، ويَنْفِيَ فَقري فَعل‏.‏
قال‏:‏ وما الذي يَنْفي فقرَكِ، ويَجْبر كسرك؟
 قال‏:‏ ألفُ دينار، وألفُ دينار، وألفً دينار‏.‏
قال‏:‏ فأطرق هشام طويلاً ثم قال‏:‏ يا بن أبي الجهم، بيتُ المال لا يَحتمل ما ذكرتَ ثم قال له‏:‏ هيه‏.‏
قال‏:‏ ما هيه، أما والله إن الأمر لواحد، ولكن الله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقّا أديتَ، وإن تمنعنا فنَسأل الله الذي بيده ما حَويتَ‏. ‏يا أمير المؤمنين إنّ الله جعل العَطاء محبّة والمنع مَبْغضة، والله لأن احبك أحبُّ إليً من أن أبغضك‏!‏
قال‏:‏ فألفُ دينار لماذا؟
 قال‏:‏ أقضي بها ديناً قد فدحني (1) قضاؤُه، وقد عَنَاني حملُه، وأضرّ بي أهلُه‏.‏
قال‏:‏ فلا بأس، نُنفِّس كرْبة، ونؤدي أمانة‏.‏
وألفُ دينار لماذا؟
 قال‏:‏ أزوَج بها من أدرك من وَلدي‏.‏
قال‏:‏ نِعم المَسلكُ سلكتَ، أغضضتَ بصراً، وأعففتَ ولدا، ورفعت نسلاً‏.‏
وألفُ دينار لماذا؟
 قال‏:‏ أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي‏،‏ وأستعين بفضلها على نوائب دَهري، وتكون ذُخراً لمن بعدي‏.‏
قال‏:‏ فإنا قد أمرنا لك بما سألت‏.‏
قال‏:‏ فالمحمودُ اللّه على ذلك، و جزاك الله يأمير المؤمنين و الرحم خيرا، ثم خَرج‏.‏
  فأتبعه هشام بصرَه، وقال‏:‏ إذا كان القُرشي فليكن مثلَ هذا، تالله ما رأيتُ رجلاً أوجزَ في مقال ولا أبلغَ في بيان من ه‏ذا.‏
ثمِ قال‏:‏ أما والله إنّا لنعرف الحق إذا نزل ونَكْره الإسرافَ والبَخَلَ، وما نُعطي تَبذيراً، ولا نمنع تَقتيرا، وما نحن إلا خُزَّانُ اللّه في بلاده، وأمناؤه على عِباده، فإذا أذن أعطينا، وإذا مَنع أبينا، ولو كان كل قائل يَصدُق، وكل سائل يَستحق، ما جَبَهْنا(2) قائلًا، ولا رَدَدنا سائلًا‏.‏
ونَسأل الذي بيده، ما استحفَظَنا أن يُجْرِيه على أيدينا‏، فإنه يَبْسط الرِّزق لمن يشاء من عباده ويَقدر، إنه بعباده خَبيرا بصيرا‏.‏
فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين، لقد تكلّمت فأبلغتَ، وما بلغ في كلامه ما قَصصت‏.‏

قال‏:‏ إنه مبتلى، و ليس المبتلي كالمعتلي.
 

المفردات:  

1- فدحه الامر أو الحمل أو الدين:   أثقله و بهضه.

2- جبه الرجل: ضربه على جبهته. و جبهه بالمكروه: استقبله به.  و جبه فلانا: رده عن حاجته.



المصادر:

 صبح الاعشى - ج 1 ص 264


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire